مراجعات الكتب

الظاهرة الاستبدادية وملاحظات عن الجماعة المسيطرة/ سيف الدين عبد الفتاح

كانت النية أن يكون هذا المقال عن أفكار الكتاب المهم الذي تُرجم أخيرا، وعرض له مقال الكاتب السابق في “العربي الجديد” (6/8/2021).

وقد حمل الكتاب عنوانا تساؤليا “كيف تعمل الدكتاتوريات؟”، مع عنوان فرعي يشير إلى نقطة الارتكاز في التعامل مع هذا السؤال والاجابة عنه، “السلطة وترسيخها وانهيارها”. ولكن مقالا للكاتب عمر كوش نشر في “العربي الجديد” في 13 اغسطس/ آب الحالي، بعنوان “كيف تعمل الدكتاتوريات؟.. ترسُّخ السلطة وانهيارها”، حرص على تناول موضوعات الكتاب بصورة بيّنة وواضحة. وهنا قرر صاحب هذه السطور أن يكتفي بالإحالة إلى هذا المقال المهم، والدعوة إلى الاطلاع عليه، باعتباره قد جاء أوفى مما كنت سأكتبه عن هذا الكتاب، أفكارا وقضايا. وفي الوقت ذاته، يتناول هذا المقال الكتاب من زاوية أخرى، تتمثل في رصد بعض الملاحظات النقدية بشأن مفهوم “الجماعة المسيطرة” الذي يعد أحد مفهومي الكتاب المحوريين، باعتباره شكّل تمثلا محوريا وسندا أساسيا في منهجية التحليل والتفسير المعتمدة في الكتاب، من حيث تعميمه على الظاهرة الاستبدادية لكل أشكالها وتنوعاتها وتمثلاتها الميدانية والواقعية.

الجملة الأساسية التي تشير الى تلك الظاهرة الاستبدادية، والتي جاءت في صدر مقدمة هذا الكتاب، حينما أكّد مؤلفوه أنه قد “عاش معظم البشر في ظل أنظمة أوتوقراطية استبدادية، منذ أن بدأ الإنسان في سكنى المجتمعات المستقرة. وحتى الآن، لا تزال الدكتاتوريات تحكم أكثر من 40% من بلدان العالم، وكل الحروب الدولية التي اندلعت بعد نهاية الحرب العالمية الأولى كانت الدكتاتوريات طرفا فيها. كما أن ثلثي الحروب الأهلية والصراعات العرقية التي شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية اندلعت في دولٍ ترزح تحت حكم الفرد. ومنذ سقوط جدار برلين، ارتكبت الدكتاتوريات أكثر من 25% من المذابح الجماعية التي قامت بها الحكومات. وبعبارة أخرى، لقد أثرت الدكتاتوريات (الظاهرة الاستبدادية) في حياة ملايين البشر وموتهم أيضا، وتسببت في معظم التحدّيات الدولية التي يواجهها الساسة في العالم”. تلك الإشارة المهمة إلى خطورة تلك الظاهرة الاستبدادية تأثيرا ومآلا من المداخل المهمة التي تؤكد أن دراسة هذه الظاهرة والتعرّف على مفاصلها في التعامل مع الدكتاتوريات، وفهمنا المحدود لكيفية عملها، خصوصا أن معظم الدراسات الاكاديمية التي درست كيفية عمل الحكومات في الدول الديمقراطية لم تهتم الاهتمام الكافي بالدكتاتوريات، والتعرف على كيفيات عملها، وأن مجال التعجب في هذا المقام يعود إلى ما أشار إليه مؤلفا الكتاب أن “ليس سرّا أن أسرع الدول نموا في العالم هي دول تعيش في ظل أنظمة دكتاتورية، ولكن أسوأها إدارة لاقتصادها هي دكتاتوريات كذلك.. وأن النظريات المجرّدة التي تتعامل مع الدول الدكتاتورية كوحدة واحدة لا تستطيع إدراك هذه الفروق. ولذلك نحتاج إلى نظريات أكثر واقعية”. هذا النقل المطول، خصوصا في خاتمته، يشير إلى جوهر النقد الذي يمكن أن نقدّمه في تلك الملاحظات، خصوصا على مفهوم الجماعة المسيطرة الذي تناوله هذا الكتاب.

كما أننا نتشارك القلق مع أنا جرزيمالا – بوسي، أستاذة العلوم السياسية في جامعة ستانفود وعضو الأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، الذي أبدته في عرضها للكتاب في مجلة “فورين أفيرز”، عدد يناير/ فبراير 2020، عن تآكل الديمقراطية حتى في الدول التي تعد راسخةً في ممارستها، وليس في الديمقراطيات الجديدة فحسب، وتساؤلها “هل استدارت عجلة التاريخ لتسير إلى الخلف؟ وإشارتها إلى أن العالم بات الآن يسير للخلف عائدًا صوب الاستبداد وتقلص مساحات الحرية والمساواة، وكيف عزّز الطغاة قبضتهم على العديد من البلدان، وشهدت العديد من الديمقراطيات صعود قادة وحركات ذوي عقلية استبدادية. هذه الاتجاهات تجعل مهمة فهم الحكم الديكتاتوري ذات أهمية كبرى”.

وقد وُفق الطرح الذي يقدّمه الكتاب عن أسباب إخفاق الباحثين عن تحقيق تقدّم في دراسة هذه الظاهرة، مثلما الحال في الديمقراطيات، على اعتبار أن مفاصل الظاهرة الاستبدادية وعملية اتخاذ القرار فيها غالبا ما تحدُث في الظلام، وأنه ليس عليك بالضرورة، إن أردت فهم الآليات اليومية لعمل النظم الاستبدادية، أن تبحث داخل المؤسّسات الرسمية، إذ غالبا ما تتخذ تلك القرارات المحورية داخل مجموعات نخبوية صغيرة في سياقات غير رسمية. ولهذا السبب، إن أردنا تحقيق تقدّم في فهمنا الدكتاتوريات؛ فإننا بحق نحتاج الى أكثر بكثير من المتاح من معلومات، كذلك اتباع أصول منهجية غير التي شاع استخدامها قي الدراسات الاعتيادية. ولعل الأمر أيضا يشير إلى أنه في التطبيق، ومن خلال النظم الاستبدادية المتنوعة والمختلفة، فإن الصعوبة التي تتعلق بالبصر المنهاجي الواضح، وتبصّر الفهم العميق للعمل السياسي في الأنظمة الاستبدادية يكمن في عدم التجانس يين كتلة هذه الأنظمة التي تقع تحت هذه الظاهرة وتنوعها، والنظر إليها ككتلة مصمتة؛ من حيث طرائق صناعة القرار فيها، وكيفية اتخاذ قادتها، وأي مجموعات تؤثر في هذه القرارات، ومن يستبعد منها ومن يدعم النخبة الدكتاتورية، ومن يستفيد من قراراتها.

في ضوء تلك المداخل المنهاجية، سواء تعلق ذلك بهذه الدراسة أو بغيرها، فإن التوقف عند مفهوم، ومصطلح “جماعة السيطرة”، وكما يستخدمها الكتاب للإشارة إلى “المجموعة الصغيرة التي تطيح بالنظم القائمة وتستولي على السلطة مطلقة إشارة البدء للدكتاتورية وكذلك القاعدة المنظمة الداعمة”؛ وأول النقد أن هذا المفهوم يأتي بالمفرد، في حين أننا نرى أنها “جماعات سيطرة” تتكوّن من تكويناتٍ متعدّدة مركزية وخادمة وداعمة ومساندة ومستفيدة. ولعله عند الحديث مثلا على تلك التجربة الانقلابية في مصر نشير إلى كيف مهّدت أحداث 30 يونيو/ حزيران 2013 لهذا الانقلاب الذي تم في 3 يوليو/ تموز 2013، لتشكل بعد ذلك غطاءاتٍ من جماعاتٍ مختلفةٍ استطاعت أن تستخدمها وتوظفها ضمن تلك المشاهد، واستطاعت أن تعتمد عليها في فترة مبكّرة ثم أهملتها وربما اعتقلتها وسجنتها.

أشارت التجربة المصرية إلى جماعات متعدّدة، وفقا لمسار مرسوم مسبقا، مزجت ما بين مفهومي “العصابة” و”المؤسسات المختطفة”، والتي تتحرّك وفق تعليمات وتوجيهات من فئة مسيطرة تحرّك جماعات تشارك في عملية الهيمنة والسيطرة من مؤسّسة عسكرية ومؤسسات أمنية ومؤسسية بوليسية، وحتى تلك المؤسسة القضائية والإفتائية، بل إنها لا تستنكف عن أن تجعل لنفسها ظهيرا دينيا، يصدر خطابا مبرّرا ومسوّغا تلك السياسات الطغيانية الباطشة والغاشمة، وكذلك جوقات إعلامية يتم توجيهها، فضلا عن اجتماع مصالح رجال المال والأعمال المتعاونين مع بؤرة ذلك النظام، يديرها بما يمكن تسميته سيف المعزّ وذهبه. ومن ثم، توضح التجربة المصرية أن الجماعة المسيطرة هي جماعات تتشكّل من أذرع داعمة وفرعية ومؤسسات مختلفة، حتى تشكل، في النهاية، قاعدة ارتكاز في مسارات دعمها وتمكينها.

العربي الجديد

نحو تحليل للظاهرة الاستبدادية/ سيف الدين عبد الفتاح

تشريح الظاهرة الاستبدادية أمر مفيد، وخصوصا لتلك التجارب التي انقضت، وباتت قابلة لذلك، في ظل أن الظاهرة نفسها لا تزال تعيش فيما بيننا، وربما تزايدت شواهدها، لاستمرارها في جنبات المجتمعات وأنظمة الحكم وامتداد تأثيرها على معاش الناس ومستقبل بلادهم، وعلى أوطانهم وجودا وكيانا، الأمر الذي يتطلّب التدخل الجراحي لاستئصال هذه الأورام السرطانية من جسد الدولة والمجتمع، وهو أمرٌ بالنسبة لنا جدير بالاهتمام، لو أردنا أن نبقي على حياة تلك الأوطان والمجتمعات، من دون أن ننكر أهمية الاستفادة من الأساليب التشريحية في المسائل الطبية والعضوية في مثل تلك الظواهر السياسية، وخصوصا المتعلقة بالظاهرة الاستبدادية، ولكن النزول إلى أرض الميدان شأن آخر، يستحق المعايشة والمكابدة والمقاومة والمواجهة والتضحية، وهو ما يوفّره لنا الكتاب الصادر حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، “كيف تعمل الدكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها”. وهو نتاجُ عملٍ بحثيٍ مشترك لكل من باربرا غيديس وجوزيف رايت، وإيريكا فرانتز، وترجمة متميزة من عبد الرحمن عياش.

قدّم الباحثون الثلاثة إجاباتٍ وافية عن أسئلة متعلقة بالأنظمة الدكتاتورية، منها السؤال المركزي في عنوان الكتاب، في أربعة أقسام رئيسية، تضمنت تسعة فصول بعدد 382 صفحة. وقد سبق هذه الأقسام فصل تمهيدي تضمن رؤيته للقضية ومفاهيمه المركزية المعتمدة في التحليل، ثم جاء القسم الأول ليشمل البداية وفيه الاستيلاء الاستبدادي على السلطة، وتم التركيز على الانقلابات العسكرية، مع عدم اهمال الطرق الأخرى. وتناول القسم الثاني موضوع تقوية النخبة، مشيرا إلى تأثير انقسام النخبة في الشخصانية، مركّزا على العلاقة بين الدكتاتور وجماعة السيطرة، كما استعرض الاستراتيجيات التي تساعد الدكتاتوريات في مواجهة التحدّيات. وفي القسم الثالث، ناقش الكتاب العلاقة بين الدكتاتور والمجتمع، محاولا الإجابة عن سؤال: لماذا تُنشئ الدكتاتوريات أحزابا وتعقد انتخابات؟ بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية المخصّصة للمراقبة والقهر، وكيف أنها سلاح ذو حدّين، سواء على المجتمع أو الجماعة المسيطرة والدكتاتور؟ وجاء القسم الرابع والأخير لبحث بقاء الدكتاتوريات وانهيارها، حيث تناول أسباب سقوط الدكتاتوريات، وقدّم نتائج توصل إليها الكتاب من دراسة النماذج موضع الدراسة.

وضح إدراك مؤلفي الكتاب أحوال الدول الديكتاتورية وما تضمه من نماذج كثيرة ومختلفة فيما بينها، سواء على مستوى توفير الرفاهية للمواطنين، وفي دورها في الصراعات الدولية، وبعضها يعيش الحروب والعنف السياسي، وبعضها الآخر يعيش حالة من الاستقرار، كما أن أسرع الدول نموا هي دكتاتوريات، وأسوأها في إدارة اقتصادها دكتاتوريات أيضا. وفي بعض الدول مساواة بين مواطنيها وأخرى تفتقر لذلك. ويتوقف المؤلفون عند ملاحظة جوهرية، أن العلم بشأن الدكتاتوريات قليل، وخصوصا فيما يتعلق بكيف تعمل ولماذا تفشل أيضا؟ وعملية اتخاذ القرار في الدكتاتوريات، والتي غالبا ما تحدُث في الظلام، حيث تتخذ المجموعات النخبوية الصغيرة في الأنظمة الدكتاتورية قراراتها في سياقاتٍ غير رسمية. ولا تنشر الدكتاتوريات بياناتٍ أقل فحسب، ولكن ما تنشره قد يكون غير دقيق بشكل متعمّد. كما أن للانتخابات في الدكتاتوريات وظيفة أخرى غير التي تعرفها الدول الديمقراطية. بالإضافة إلى ذلك، يتبنّى الكتاب مفتاحين مهمين، “جماعة السيطرة” و”النظام”، لفهم قضية الدكتاتوريات وتفكيكها، وكيف تعمل وما هي الآليات والأدوات التي تضمن استمرارها.

استند المؤلفون الثلاثة في إنجاز بحثهم إلى قاعدة بياناتٍ ضخمة، شملت نحو 280 نظامًا استبداديًا ظهر بين عامي 1946 و2010، ضمّت معلوماتٍ عن طبيعة هذه الأنظمة، وطريقتها في إدارة الدولة، وكيفية تعاطيها مع شعوبها أيضًا. كما تم الاعتماد على مجموعة بيانات الانقلابات العسكرية 1946 – 2013 التي أصدرها مركز السلام النظامي. وأفرد الكتاب لكل من النزاع والمساومة بين الدكتاتور وأفراد دائرته المقربة مساحةً لا بأس بها، شملت أقسام الكتاب المختلفة، باعتبارهما سمتين رئيسيتين في السياسة الاستبدادية، لكونهما من أهم الأشياء التي سعى الكتاب إلى شرحها. كما حرص الكتاب على تحليل الصفات الخارجية لجماعة السيطرة، باعتبارها تساهم في دراسة الاختلافات بين الأنظمة الاستبدادية، ويتم قياسها قبل وجود الدكتاتورية، كما أن تقييم صفات الحكم الدكتاتوري في مرحلة ما بعد الاستيلاء على السلطة، وكذلك التمييز بين الدكتاتوريات التي يكون فيها لمسؤولي الحزب القدرة على تحجيم الدكتاتور وتلك التي تضم أحزابا منزوعة الأنياب. وقد شكلت هذه الأطر منظومةً تحليليةً في فهم الموضوع بمراحله الثلاث؛ التأسيس، والترسيخ، والانهيار أو البقاء.

اعتمد الكتاب على آليتين رئيستين في التحليل عملا معا بشكل متواز ومتناغم، وساهما في جلاء غموض الموضوع وحل تعقيداته (مع تأكيد أن الإحصاء ساهم في الإبقاء على جانب كبير من تعقيد الموضوع)، وهما استراتيجية الأسئلة والأشكال البيانية والتوضيحية. وجاء اعتماد الكتاب على “آلية استراتيجية الأسئلة” بدءا من عنوانه، والذي جاء على شكل سؤال. كما أن معظم عناوين الفصول، بل وبعض العناوين الداخلية، جاءت في صيغة أسئلة. وقد مثّل اعتناء القائمين على الكتاب بالإجابة عن هذه الأسئلة وتقديم خلاصاتٍ متميزة في نهاية الفصول، في تسهيل عملية فهم الكتاب والتفاعل معه. قدّم الكتاب إذًا قراءة متميزة وشاملة للموضوع، من حيث طبيعة الموضوع، تأسيسا وتقوية وانهيارا أو سقوطا. وكذلك أحاط بها زمنيا ومكانيا، فالنماذج التي درسها، والأمثلة التي ساقها، جاءت ممثلة للأبعاد الزمنية والمكانية لنشأة الظاهرة وبروزها.

وعلى الرغم من أهمية هذا الكتاب ومنهجيته، فإن إشكالية الاستبداد والدكتاتورية ليست مجرّد إشكالية بحثية فحسب، بل تتعدى ذلك إلى أنها إشكالية قيمية، على عكس تعامل بعض الكتابات الغربية. وينشأ ذلك من فهمها الموضوعية والحياد في التعامل مع الظاهرة، على الرغم من أن بعض الظواهر، في حقيقة الأمر، لا يمكن بأي حال أن نقف فيها على ما يسمّى الحياد العلمي؛ ومنها قضية الاستبداد، فالحديث عن هذه القضية هو حديث قيم وأخلاق وحقوق إنسانية وكفاحية. ومن ثم، فإن الباب الذي يتعلق بمكافحة الاستبداد ومقاومته، ربما لا يكون موضع اهتمام كافٍ في تلك الدراسات العربية، على الرغم من أنه قد يعالج كيف يمكن أن تتآكل هذه الدكتاتوريات أو تتدهور في أحوالها. ومن ثم، فإن المبحث الذي يتعلق بتفكيك الاستبداد من أهم المباحث والدراسات التي يجب أن يهتم بها هؤلاء الذين يكتبون، وهم مهمتون بمسألة الإصلاح، مع ضرورة وضع هذه الكتابات في الاعتبار والتعلم منها، في كيف تعمل الدكتاتوريات وكيف تقوّي نفسها، وذلك حتى تتمكّن هذه الدراسات من أن تبدع في عملية المواجهة والمقاومة لمواجهة الظاهرة الاستبدادية. ومن هنا يجب أن يكون السؤال الذي نهتم به بشكل أكبر: كيف يمكننا أن نفكّك الاستبداد؟ ومع أهمية هذا الكتاب بصفة عامة، إلا أن من الضروري أن نتوقف جيدا عند الإسهام المتميز الذي قدّمه، والخاص بالمفهوم المفتاحي المتعلق بالجماعة المسيطرة في الحالة الاستبدادية، وتأثيرها على الظاهرة إيجابا أو سلبا.

==============================

—————————

كيف تعمل الدكتاتوريات؟ .. ترسُّخ السلطة وانهيارها/ عمر كوش

يقدم كتاب “كيف تعمل الديكتاتوريات؟ السلطة وترسيخها وانهيارها” (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2021)، دراسةً تحليليةً علميةً عميقةً للكيفيات التي تعمل بها الأنظمة الديكتاتورية، والطرق التي تستولي بواسطتها على السلطة، والسبل التي تتبعها لإدارتها والمحافظة عليها، إضافة إلى الكيفيات والظروف المؤدّية إلى انهيارها، حيث يقلل مؤلفو الكتاب الثلاثة، باربرا غيدس وجوزيف رايت وإيريكا فرانتز، من أهمية الدراسات القائمة على الخبرة المحلية المثيرة للإعجاب، باعتبارها تفتقر إلى “الأدلة”، فيما يستندون في دراستهم إلى جهود وأعمال فريق بحثي مُتخصّص، امتدت عدة سنوات، تمكّن خلالها من الوصول إلى كمٍّ هائلٍ من المعلومات والبيانات لأكثر من 280 نظاماً ديكتاتورياً تولت السلطة بعد الحرب العالمية الثانية وصولاً إلى عام 2010، وأخضعه المؤلفون إلى دراسة تحليلية أكاديمية، وخرجوا منه بنتائج مدعومة بأرقام وإحصاءات وجداول بيانية شديدة الأهمية.

ويكتسب الكتاب الذي ترجمه عبد الرحمن عياش أهمية كبيرة، ليس من ناحية تناوله الديكتاتوريات والطغاة فحسب، ولكن من ناحية توقيته أيضاً، حيث عزّز الطغاة في السنوات الأخيرة قبضتهم على عدد من الدول، وخصوصا دولنا العربية، فيما شهدت بعض النظم الديمقراطية في العالم وصول قادة من أصحاب العقليات الاستبدادية إلى الحكم وصعود حركات مؤدّية لهم.

ويتّضح من الكتاب أن الأنظمة الديكتاتورية، وحتى الأكثر قمعية فيها، تتصرّف وفق أنماط معروفة، ومع ذلك يكتسي الكتاب أهمية من المهمة التي يتصدى لها في تقديم فهم لطبيعة الأنظمة الديكتاتورية، وما يثيره من تساؤلات حولها، إلى جانب إسهامه في فتح آفاق التفكير والنظر في مشكلات بلداننا العربية، التي يقبع معظمها تحت نير أنظمة ديكتاتورية منذ عقود طويلة.

صعوبة فهم الديكتاتوريات

صعوبات كثيرة تعيق دراسة الديكتاتوريات وفهمها، الأمر الذي جعل معظم التحليلات الأكاديمية، التي درست كيفية عمل الحكومات، تركز على الدول الديمقراطية، خصوصا وأن الأنظمة الاستبدادية تقيد المعلومات عن نفسها. وبالتالي، فإن ما نعرفه عن عملية صنع القرار في الديكتاتوريات أقلّ كثيراً مما نعرفه عن نظيرتها في الدول الديمقراطية. وما يعقّد الأمر أكثر أن الدول الديكتاتورية لا تختلف فقط عن الديمقراطيات، لكنها تختلف أيضاً عن بعضها بعضا، حيث يسود عدم التجانس بينها واختلافها الشديد في طرائق صنع القرار فيها، وكيفية اختيار قادتها، وأي مجموعات تؤثر في هذه القرارات، ومن يستفيد من قراراتها. ولهذا الاختلاف أثره في التعامل مع المواطنين، وفي الصراعات الدولية. يضاف إلى ذلك أن عملية صنع القرار الديكتاتورية غالباً ما تحدث في الظلام، في الوقت الذي تُصنع فيه السياسات في الدول الديمقراطية بشفافية نسبية. وغالباً ما تتخذ المجموعات النخبوية الصغيرة في الأنظمة الديكتاتورية قراراتها في سياقاتٍ غير رسمية، فيما يكون أعضاء مجلس الوزراء منفذي القرارات لا صانعيها. أما الأنظمة الديمقراطية فتتيح بيانات كثيرة عن آليات عملها، ما يسهل من مهمة الباحثين. كما أن الديكتاتوريات لا تنشر، من جانبها، بياناتٍ أقلّ فحسب، لكن حتى ما تنشره قد يكون غير دقيق بشكل متعمّد. لذلك يرى مؤلفو الكتاب أنه على الرغم من أن لدينا نظريات عديدة مثيرة عن الديكتاتوريات، لا يقف إلا أقلها على أرضٍ صلبة في الواقع، إلا أننا لا نعرف الكثير عن السبب وراء قدرة بعض الديكتاتوريات على تأسيس حكوماتٍ مستقرّة، في حين تعاني بعضها توترات مستمرّة، أو لماذا تقرّر دول منها بناء مؤسسات سياسية ذات وجه ديمقراطي، وترفض ذلك أخرى، أو لماذا توزّع بعضها الثروات على الشعب، ويحتفظ بعضها الآخر بمقدّرات الدولة في أيدي حفنةٍ صغيرةٍ من داعمي النظام، أو لماذا تعيش ديكتاتوريات عشرات السنين وتنهار أخرى في غضون عام أو اثنين؟ باختصار، نحن لا نعلم إلا القليل عن الديكتاتوريات، وكيف تعمل، أو لماذا تفشل وتنهار أحياناً؟ ومن أجل تشريح الديكتاتورية، يُعرّف مؤلفو الكتاب الأنظمة الاستبدادية بأنها لا تحدد فيها الانتخابات من الذي يقود البلاد، أو هي التي لا يغير فيها القادة المنتخبون ديمقراطياً قواعد اللعبة، بينما يقضون على كل فرص الآخرين لمنافستهم.

ويجترح المؤلفون مفهوم “جماعة السيطرة”، للإشارة إلى المجموعة الصغيرة التي تطيح النظام القائم، وتستولي على السلطة، مطلقة إشارة البدء للديكتاتورية، وكذلك إلى القاعدة المنظمة الداعمة لها، ومن ثمّ يتتبع الكتاب تسلسل التحدّيات التي تواجه النخب الديكتاتورية، بدءاً من مرحلة التأسيس للدكتاتورية والاستيلاء على السلطة، مروراً بتقوية النخب وتوسيع مجال السيطرة على المجتمع وتنفيذ السياسات، ووصولاً إلى مرحلة الانهيار والسقوط.

ونعثر في الكتاب على بعض الحقائق بشأن كيفية تشكل الديكتاتوريات، وما يحدُث مباشرة بعد الاستيلاء على السلطة، مع توضيح الأساليب المختلفة للوصول إليها، وأولى الحقائق الكبرى أن 45% من ديكتاتوريات ما بعد الحرب العالمية الثانية جاءت نتيجة انقلابات عسكرية قام بها ضباط في الجيش، مثل انقلاب عام 1963 في سورية الذي أفضى إلى انقلاب 1970 وقيام ديكتاتورية آل الأسد، والانقلابات التي حدثت في مصر والعراق واليمن وتشيلي وكمبوديا وأفغانستان وبوروندي والكونغو وسواها. لكن الديكتاتوريات يمكن أن تصل إلى السلطة أيضاً، عندما تدعم قوى الاحتلال والقوى الأجنبية حاكماً غير منتخب أو عندما تغير الأحزاب المنتخبة القواعد لمنع إجراء انتخابات حرّة، وهي لا تخرج بشكل عام من الحركات والانتفاضات الشعبية.

الجيوش والأحزاب

يتعامل مؤلفو الكتاب مع الجيش باعتباره جماعة مصالح وفاعلاً سياسياً منظّماً في حدّ ذاته، لكن ضباط الجيش، خلاف الفاعلين السياسيين، لا يمثّلون مصالح مجتمعة بعينها، وبالتالي نادراً ما تدافع الانقلابات عن مصالح النخب الاقتصادية، ذلك أن انقلابات عسكرية عديدة ناتجة عن مظالم الضباط والقادة العسكريين وأحقادهم، وخصوصاً الذين استبعدوا من الترقية وسوى ذلك، مع أن القيام بانقلاب عسكري لا يتطلب متآمرين كثيرين. ويبرز دور الجيوش والأحزاب السياسية بوصفها جماعات السيطرة التي يمكنها الاستيلاء على السلطة. لكن على الرغم من خبرة هذه الجماعات المهنية، إلا أنها، في أحيان كثيرة، لا تكون لديها خطط مفصلة لكيفية إدارة السلطة التي استولت عليها. لذلك يواجه طغاةٌ كثيرون صعوبات في ترسيخ حكمهم، وبالتالي على الديكتاتور وجماعته الموازنة بين التعاون والصراع بمجرّد الاستيلاء على السلطة، بغية إنشاء قاعدة سياسية يرتكز عليها حكمهم، والحفاظ على ولاء مؤيديهم وأنصارهم من خلال منحهم منافع كافية لضمان ولائهم، وذلك عبر تقديم الديكتاتور تدفقاً متواصلاً من المنافع لمن حوله، والوعود وحدها لا تكفي، لأن وعوده ليست موضع ثقة، لذلك يتمّ تأمين المنافع عن طريق تفويض السلطة والمحسوبية أو عن طريق إعادة توزيع الموارد. ويلجأ بعض الطغاة إلى تأسيس أحزاب سياسية، من أجل ترسيخ الحكم الديكتاتوري بعد الاستيلاء على السلطة، والأمثلة كثيرة في هذا المجال، وذلك ضمن استراتيجية الحفاظ على السلطة وحمايتها من الانهيار، لأن الغاية تصب في مصلحة إطالة حكم الديكتاتور، حيث يجد مؤلفو الكتاب أن الأنظمة الاستبدادية التي تدبرها أحزاب سياسية مهيمنة تستمر ضعفي مدة الأنظمة التي لا تديرها تلك الأحزاب.

وتمثل الأحزاب وسيلة فعالة لتنظيم داعمي النظام الحاكم، ولتحويل توزيع المنافع عليهم وجمع المعلومات منهم، حيث تقوم أحزاب الأنظمة الديكتاتورية بعمليات تعبئة المجتمع وتزويد المواطنين بالمنافع والمكاسب والعطاءات، وبصناعة تبعية تشجّع الدعم الشعبي وتنمّي الانتهازية، بحيث يغدو الانتساب إلى حزب الديكتاتور طريقاً للحصول على الامتيازات والتعليم والوظائف والسفر، وضامناً لموالاة أغلب أفراد المجتمع، أو على الأقل جعلهم صامتين وقانعين، ويعتمدون على المحسوبية التي تفضي إلى ملء صفوف الحزب بانتهازيين وبوصوليين لا همّ لهم سوى الحصول على منافع ملموسة وعلى حساب الآخرين.

ويبقى السؤال عن أسباب استقرار بعض الأنظمة الديكتاتورية محيراً، وخصوصا النظام الحاكم في جمهورية الصين الشعبية، وهي أهم دولة استبدادية، لم تستمر إلى يومنا هذا فحسب، بل ازدهرت من خلال التكيف والتأقلم مع الاستبداد، حيث يحاول مؤلفو الكتاب تقديم تفسيراتٍ لأسباب استقرار النظام الاستبدادي في الصين الذي يحكمه حزب شيوعي مهيمن، فيما فشلت الأحزاب الشيوعية الأخرى في العالم وانهار معظمها، وبالتالي تبرز أسئلة عديدة حول تمكّن الحزب الشيوعي الصيني من إعادة صياغة العلاقة بين الرأسمالية والمجتمع، وامتلاكه القدرة على تغيير مسار الصين الشيوعية باتجاه فتح الاقتصاد مع الإبقاء على إغلاق النظام السياسي، الأمر الذي يجده مؤلفو الكتاب في الدور الهام الذي لعبته القواعد والمؤسسات غير الرسمية، من خلال ضمان الحكم الرشيد والنمو الاقتصادي، مع الحفاظ على سيطرة الحزب على المجتمع، حيث سمح هذا التوازن الدقيق للحزب بتغيير المسار دون زعزعة استقرار النظام.

الانتخابات المزوّرة

في معرض الإجابة على سؤال أهمية إجراء انتخابات دورية بالنسبة إلى المستبدّين، على الرغم من أنها مزوّرة ومعروفة النتائج سلفاً، يرى مؤلفو الكتاب أنها مفيدة للمستبدّين، ليس لأنها توفر لهم غطاءً شرعياً فحسب، بل كونها توفر لهم طريقة لمراقبة مؤسّساتهم وأجهزتهم الخاصة وامتحان قدراتها، ومراقبة رعاياهم كذلك. كما أنها تساعد على ردع الانشقاقات في النخبة التي تمثل أخطر تهديد لبقاء الديكتاتور ونظامه. وتظهر الانتخابات أيضاً مدى سيطرة الديكتاتور على الموارد اللازمة للتشبث بالسلطة، وقدرته على تعبئة الناس وإثبات لشبكات الولاء على نطاق الدولة، حيث تكشف انتخابات الهيئات التشريعية والهيئات المحلية كفاءة صغار مسؤولي الحزب، فيما يكشف الإقبال المتدنّي عدم قدرة القادة المحليين على تعبئة الناس لصالحه. ولا يقتصر دور الهيئات التشريعية على وضع القوانين، بل يتجسّد دورها الأساسي في تقسيم المكاسب غير المشروعة وتوزيعها على الموالين، فضلاً عن أن الانتخابات تساعد على حماية الديكتاتوريات من خلال توفير وسائل المراقبة الدورية لرصد سلوك المسؤولين وعامة الناس. ويلجأ المستبدّون إلى اتباع طرق مختلفة من أجل الحفاظ على بقاء أنظمتهم، وهم لا يعتمدون فقط على القمع والرقابة والمحسوبية، بل على الملاحقات القضائية وتخويف العاملين في وسائل الإعلام، وإعاقة عمل منظمات المجتمع المدني، واستخدام الأغلبية البرلمانية لتمرير قوانين ودساتير جديدة وسوى ذلك.

الانهيار والسقوط

يتوصّل مؤلفو الكتاب إلى أن الانقلابات والانتخابات والانتفاضات الشعبية هي أكثر الطرق شيوعاً لإنهاء الديكتاتوريات، فحوالي ثلث الأنظمة الديكتاتورية تنتهي بانقلاب عسكري، فيما ينتهي نحو ربعها بانتخابات حرّة. ولكن في بعض الأحيان ينهار كل شيء مع الصدمات الخارجية، مثل الأزمات الاقتصادية العالمية والكوارث الطبيعية وموت الديكتاتور. وغالباً ما تُسَرِّع الأزمات الاقتصادية من سقوط أنظمة الاستبداد، لكن شبكات المحسوبية والعملاء يمكن أن تدعم الطغاة في أثناء سقوطهم، غير أنه، في نهاية الأمر، لا يمكن للمحسوبية والنفوذ فعل الكثير، حيث يبرز الاتحاد السوفييتي بوصفه مثالاً بارزاً على أن تدهور الاقتصاد، والتصورات الخاطئة للإصلاح، يمكن أن تؤدّي إلى انهيار سريع وكارثي.

العربي الجديد

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى